الاستدامة في التصنيف… والاستدامة في المراكز!


في سياق التصنيفات الدولية للجامعات، لم تعد الاستدامة مجرد مفهوم ثانوي، بل أصبحت مكوناً أساسياً في تقييم مكانة المؤسسات الأكاديمية وتميزها. فبينما تبرز الاستدامة البيئية والاجتماعية كمعايير محورية في منهجيات التقييم العالمية، تتعمق الحاجة إلى استدامة أكثر شمولاً: استدامة المراكز المتقدمة التي تحققها الجامعات واستمراريتها في الصدارة عبر الزمن.

تحول استراتيجي في معايير التقييم

تشهد التصنيفات العالمية الرائدة مثل تصنيف /Times Higher Education (THE) وتصنيف QS وتصنيف شنغهاي تحولاً جوهرياً في معاييرها. فقد تجاوزت هذه التصنيفات النظرة التقليدية المقتصرة على الإنتاجية البحثية وسمعة الخريجين، لتبنّي مؤشرات تعكس التزام الجامعات بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. فأصبحت معايير مثل كفاءة الطاقة، والإدارة المستدامة للحرم الجامعي، ودعم البحث العلمي الموجه نحو حلول التحديات العالمية، جزءاً لا يتجزأ من تقييم أداء الجامعات.

هذا التحول ليس ترفاً أكاديمياً، بل إدراكاً متزايداً لدور الجامعات كمحركات للتغيير المجتمعي والبيئي. فالمؤسسات التعليمية العليا لم تعد مسؤولة فقط عن إعداد الكوادر القيادية، بل أيضاً عن تقديم نماذج عملية للمجتمعات المستدامة.

الاستدامة في التصنيف: بين القياس والتأثير

إدراج معايير الاستدامة في التصنيفات الدولية لا يقتصر على قياس الأداء الحالي للمؤسسات، بل يخلق حافزاً تحويلياً لإعادة هندسة أولوياتها الاستراتيجية. فالجامعات التي تستثمر في تحول الطاقة، وتبنّي سياسات الحياد الكربوني، وإدماج مفاهيم الاستدامة في المناهج التعليمية، لا تعزز فقط مواقعها في التصنيفات، بل ترسخ مكانتها كركائز أساسية في مواجهة التحديات العالمية.

هذا الواقع يضع المؤسسات الأكاديمية في موقف المساءلة العالمية، حيث أصبح أداؤها البيئي والاجتماعي موضوع تقييمٍ دقيق، مما يدفعها نحو تبني استراتيجيات مستدامة حقيقية تتجاوز الإجراءات التجميلية المؤقتة.

التحدي الجوهري: استدامة التميز

يبرز هنا السؤال المحوري: هل تستطيع الجامعات التي تحقق مراكز متقدمة بسبب استثماراتها في الاستدامة الحفاظ على هذه المراكز بمرور الوقت؟ إن تحقيق مركز متقدم يمثل إنجازاً لافتاً، لكن استدامة هذا الإنجاز هي التي تميز الجامعات الراسخة من تلك المؤقتة.

وتتطلب استدامة المركز ما يلي:

  • استثماراً مستمراً في البنى التحتية المستدامة والأبحاث ذات الأثر المجتمعي الملموس
  • رؤية استراتيجية طويلة المدى تجعل من الاستدامة قيمة مؤسسية أساسية
  • الشفافية في الإبلاغ عن الأداء عبر التقارير الدورية المعتمدة
  • عولمة المعرفة عبر شراكات دولية فاعلة في مجالات البحث والابتكار المستدام

الجامعات التي تدرك أن الاستدامة مسار متطور وليس هدفاً ثابتاً، هي التي تنجح في ترسيخ مكانتها العالمية. فمعايير التقييم الدولية في تحول مستمر، وتصبح أكثر تشدداً، والمؤسسات التي تعتمد على إجراءات قصيرة الأجل ستجد نفسها خارج السباق العالمي.

الخلاصة: التكامل بين استدامة القيمة واستدامة المركز

في المحصلة، تمثل العلاقة بين الاستدامة في التصنيف واستدامة المراكز تكاملاً عضوياً. إن التركيز على استدامة القيمة المقدمة للمجتمع العالمي عبر التعليم والبحث والممارسات المسؤولة، يشكل الضمانة الأساسية لـ استدامة المركز في التصنيفات الدولية.

فالجامعات التي تبني سمعتها على أسس راسخة من القيم والأثر الملموس، هي التي تحافظ على مواقعها المتقدمة بغض النظر عن تطور منهجيات التقييم. لأنها لا تسعى لجمع النقاط، بل لتقديم إسهامات تحويلية تفرض اعترافاً عالمياً مستمراً.

أما استدامة المراكز، فتعبر عن قدرة المؤسسات على الحفاظ على مواقعها التنافسية عبر تبني استراتيجيات إدارية وبحثية مبتكرة، وتعزيز التعاون الدولي، ورفع جودة المخرجات الأكاديمية، وتطوير البنى التحتية الرقمية الداعمة للتعلم والابتكار.

وتشير تحليلات الاتجاهات الحديثة في التصنيفات إلى أن الجامعات التي تتبنى سياسات استدامة شاملة تحقق أداءً متميزاً ليس فقط في الترتيب، بل في الأثر المجتمعي والعلمي أيضاً. فكلما تعمقت رؤية المؤسسة التعليمية لدورها في التنمية المستدامة، زادت قدرتها على التكيف مع متطلبات العصر وتطوير نماذج عمل تواكب التحديات العالمية.

كما يبرز دور متنامٍ لمعايير الاستدامة في تقييم مؤشرات مثل التكافؤ بين الجنسين، والتنوع الثقافي، وكفاءة الطاقة، والحد من البصمة البيئية. فأصبحت هذه المعايير جزءاً أساسياً من عمليات التقييم، مما يعزز دور التصنيفات الدولية كأدوات فاعلة في دفع عجلة التنمية المستدامة عالمياً.

في الختام، أصبحت الاستدامة عاملاً حاسماً في استمرارية الجامعات في المشهد التنافسي العالمي، لا مجرد وسيلة لتحسين المراكز المؤقتة. فالنموذج الناجح هو الذي يحقق التوازن الديناميكي بين الجودة الأكاديمية، والالتزام بالقيم المستدامة، والقدرة على الابتكار المستمر، مما يحول التصنيف من هدفٍ نهائي إلى أداة للتطوير المستدام.

No comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *